النيل والفرات:
"لا يحدث هذا الكتاب عن الشرق، إنما يحدث عنا" بتلك العبارة يستهل تييري هنتش كتابه هذا "الشرق المتخيل". فعندما يقتحم المشرق وبإصرار وبكافة معطياته فكر الغرب ومن ثم حياته محدثاً تغييرات فيها وفيه، فذاك يعني الكثير، ذاك يعني إسراع ذاك الغرب إلى معرفة تفاصيل كثيرة حول ذاك الشرق، تفاصيل تدخل في عمق فكره، بعيداً عن نظرة سطحية كانت هي وسيلته التي نظر غليه من خلالها وتعامل بواسطتها معه وبالأحرى مع العرب تحديداً، إذ أن الشرق يقترن بالذهن الغربي بالعربي وبصورة خاصة بالإسلام.
وهذا ما تكشف عنه التساؤلات التي تواردت لدى تييري هنتش في مقدمة كتابه هذا. إذ يقول: "الشرق متعذر إدراكه حق الإدراك... هل سألنا أنفسنا كفاية، على سبيل المثال، لماذا يبدو لنا بديهياً، كغربيين، أن الإرهاب "عربي" والتعصب "إسلامي"؟ لا يكفي أن نقف ساخطين إزاء هذه الاختزالات الرهيبة. لا بد من فهم جذورها". ولكن كيف الطريق إلى ذلك وما هي الوسيلة والأسلوب، وحول هذا يقول الكاتب: "هل المطلوب البحث عن تفسير لها لدى المسلمين أم لدينا نحن؟ أفي تاريخهم أم في تاريخنا الحاضر؟" ويضيف قائلاً: "ليست الإجابة بالأمر اليسير، ولا يدّعي الكتاب أن يمنحنا إياها جاهزة ناضجة. فهو يتصدى أساساً لأمر أسبق، لكنما أمر جوهري، ألا وهو عدم جدوى دراسة الآخر قبل أن نكون قد تأملنا بأنفسنا نحن بإزائه. وعلى الخصوص، دون أن نكون قد حاولنا فهم كيف أننا قمنا حتى الآن بدراسة الآخر وتصورناه، وما هو دافعنا إلى ذلك".
من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يصر على طرح قضية رؤية الغرب إلى الشرق المتوسطي وعن موضوعه يقول الكاتب: "جسّ هذا الكتاب إذاً شرقنا المتخيل دون ادعاء بلوغ ما يمكن أن يكون الشرق بذاته، ولا حتى إقرار واقعية الأمر أم عدم واقعيته، إقرار ملاءمة المفهوم أو عدم ملاءمته. إنه تحفظ ستثبت هذه الصفحات ضرورته على ما أعتقد. ولا ينتقص من اتساعه شيء أن يكون الشرق شرقاً متخيلاً. فهو يلتقط في موشوره صوراً وفيرة يتبدل تشابهها تبدلاً دائماً: تعدو العناصر ذاتها منسقة بألف طريقة وطريقة." ويضيف الكاتب قائلاً: "بالفعل فإن مفهوم الشرق مفهوم موشوري، إن لجهة حدوده وإن لجهة احتمالاته اللامحدودة. الحدود هنا حدود عناصره المكونة، أما اللامحدود فيكمن في لا محدودية الصيغ التي يمكن أن تنسق عناصره تعبيراً عن هياماتنا الوفيرة".
ويبرر تييري هنتش عن هدفه من كل ذلك بقوله: "القصد هنا، وقد تحزره، ليس استنفاذ الصيغ الممكنة، وإنما إبراز عناصرها الأساسية بالأمثلة الدامغة. أساسية هي العناصر بلا شك؛ إنما ليست متأصلة ثابتة: لقد ظهرت وتراكمت فوق بعضها البعض على مر العصور. لم يكتمل الموشور بحل قطعه الرئيسية إلا في القرن التاسع عشر، وهذا الكتاب بالضبط، محاولة لإعادة رسم المراحل الأكثر تأثيراً في علمية بنائه".
يبدأ الكاتب فصول كتابه بطرح مسألة الحدود الجغرافية لمخيال الغربي للشرق عبر إجابته عن سؤال مطروح حتى قام مخيال الغرب برسم هذا الخط الوهمي شرق/غرب؟ وهذا بطبيعته شكل موضوع أول فصل في هذه الكتاب. أما الفصل الثاني فقد شكل موضوعه إجابات عن التساؤلات التالية: متى كان أول تعبير عن وعي بالذات أوروبي ؟ وهل كان الإسلام عنصراً كاشفاً للذات الأوروبية؟ ومن ثم ما معنى ومغزى الحرم الكاثوليكي المسلط على دين محمد؟ وبتعبير آخر إلى أي مدى كانت منطقة المتوسط في العصر الوسيط مكاناً للتضاد أم للتكامل؟ تلك هي الأسئلة المُتَضَمَّنَةُ في الفصل الثاني والتي تدل معانيها على أن الفوارق الأكثر مغزى قد لا تكون تلك التي يشيع الاعتقاد بها.
تقود هذه الملاحظات الكاتب إلى الاهتمام من ثم بدراسة المرحلة الفاصلة "مرحلة القرن السادس عشر الطويل" ، تلك المرحلة التي شكلت فيها منطقة المتوسط، في آن واحد، مكان مواجهات عسكرية هامة وهدفاً لمحاولة التفاف طبعت بداية الاكتشافات الكبرى.
وسيرى القارئ في الفصل الثالث بماذا أثرت هذه المرحلة الحاسمة على الرؤية الأوروبية للإمبراطورية العثمانية. هل إن هذا شكل آنذاك بداية صياغة مفهوم الشرق داخل ما يمكن تسميته سياسة للهوية وللغيرية؟ الإجابة عن ذلك هي أصعب مما قد يتبدى وفي المقابل، منذ أواسط القرن السابع عشر، وبصورة أوضح كذلك مع الأنوار، كما سيظهر في الفصل الرابع، يفرض الشرق نفسه بلا منازع ممثلاً لغيرية شمولية، في الوقت نفسه الذي تتم فيه بلورة بعض المفاهيم الجوهرية مثل لوصفه سياسياً. لكن الشرق، وكما يذكر الكاتب، في مخيال الأوروبي الجمعي، الذي لن تجتمع فيه جلّ الأضداد إلا بواسطة روحية القرن التاسع عشر، أصبح لنقيضته بامتياز للحداثة، بينما الفلسفة ضمت حضارات آسيا الغربية الكبرى القديمة إلى تاريخها العالمي من خلال رؤية عرقية للعالم ولصيرورته ما زالت إلى اليوم تسيطر على الفكر الغربي والأوربيون، وما زال القول للكاتب، هم ورثة هذه الرؤية السائدة التي باتت عرضة للتآكل عند أطرافها جراء أفول نجم أوروبا ونجم الغرب بصورة نسبية، هذه الرؤية التي باتت مربكة أيضاء جراء الندم الملطف الأقلوي المتبقي من مخلفات الحقبة الاستعمارية وذيولها. ينجم عن ذلك لدى المفكرين الأكثر انفتاحاً اليوم حركة قلقة باتجاه مصالحة الآخر ورغبة في التعويض.
تلك رغبة سعى الكاتب في الفصل السادس إلى تعيين حدودها ومطباتها: ما هو الاستخدام الذي يمكن للغرب تخصيصه للنظرة التي يلقيها على الآخر، وبأي شروط يمكن للغرب مباشرة حوار معه؟ من هنا يمكن القول بأن هذا الكتاب جدير بالاهتمام وبقراءته بتأنٍ.
النيل والفرات:
"لا يحدث هذا الكتاب عن الشرق، إنما يحدث عنا" بتلك العبارة يستهل تييري هنتش كتابه هذا "الشرق المتخيل". فعندما يقتحم المشرق وبإصرار وبكافة معطياته فكر الغرب ومن ثم حياته محدثاً تغييرات فيها وفيه، فذاك يعني الكثير، ذاك يعني إسراع ذاك الغرب إلى معرفة تفاصيل كثيرة حول ذاك الشرق، تفاصيل تدخل في عمق فكره، بعيداً عن نظرة سطحية كانت هي وسيلته التي نظر غليه من خلالها وتعامل بواسطتها معه وبالأحرى مع العرب تحديداً، إذ أن الشرق يقترن بالذهن الغربي بالعربي وبصورة خاصة بالإسلام.
وهذا ما تكشف عنه التساؤلات التي تواردت لدى تييري هنتش في مقدمة كتابه هذا. إذ يقول: "الشرق متعذر إدراكه حق الإدراك... هل سألنا أنفسنا كفاية، على سبيل المثال، لماذا يبدو لنا بديهياً، كغربيين، أن الإرهاب "عربي" والتعصب "إسلامي"؟ لا يكفي أن نقف ساخطين إزاء هذه الاختزالات الرهيبة. لا بد من فهم جذورها". ولكن كيف الطريق إلى ذلك وما هي الوسيلة والأسلوب، وحول هذا يقول الكاتب: "هل المطلوب البحث عن تفسير لها لدى المسلمين أم لدينا نحن؟ أفي تاريخهم أم في تاريخنا الحاضر؟" ويضيف قائلاً: "ليست الإجابة بالأمر اليسير، ولا يدّعي الكتاب أن يمنحنا إياها جاهزة ناضجة. فهو يتصدى أساساً لأمر أسبق، لكنما أمر جوهري، ألا وهو عدم جدوى دراسة الآخر قبل أن نكون قد تأملنا بأنفسنا نحن بإزائه. وعلى الخصوص، دون أن نكون قد حاولنا فهم كيف أننا قمنا حتى الآن بدراسة الآخر وتصورناه، وما هو دافعنا إلى ذلك".
من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يصر على طرح قضية رؤية الغرب إلى الشرق المتوسطي وعن موضوعه يقول الكاتب: "جسّ هذا الكتاب إذاً شرقنا المتخيل دون ادعاء بلوغ ما يمكن أن يكون الشرق بذاته، ولا حتى إقرار واقعية الأمر أم عدم واقعيته، إقرار ملاءمة المفهوم أو عدم ملاءمته. إنه تحفظ ستثبت هذه الصفحات ضرورته على ما أعتقد. ولا ينتقص من اتساعه شيء أن يكون الشرق شرقاً متخيلاً. فهو يلتقط في موشوره صوراً وفيرة يتبدل تشابهها تبدلاً دائماً: تعدو العناصر ذاتها منسقة بألف طريقة وطريقة." ويضيف الكاتب قائلاً: "بالفعل فإن مفهوم الشرق مفهوم موشوري، إن لجهة حدوده وإن لجهة احتمالاته اللامحدودة. الحدود هنا حدود عناصره المكونة، أما اللامحدود فيكمن في لا محدودية الصيغ التي يمكن أن تنسق عناصره تعبيراً عن هياماتنا الوفيرة".
ويبرر تييري هنتش عن هدفه من كل ذلك بقوله: "القصد هنا، وقد تحزره، ليس استنفاذ الصيغ الممكنة، وإنما إبراز عناصرها الأساسية بالأمثلة الدامغة. أساسية هي العناصر بلا شك؛ إنما ليست متأصلة ثابتة: لقد ظهرت وتراكمت فوق بعضها البعض على مر العصور. لم يكتمل الموشور بحل قطعه الرئيسية إلا في القرن التاسع عشر، وهذا الكتاب بالضبط، محاولة لإعادة رسم المراحل الأكثر تأثيراً في علمية بنائه".
يبدأ الكاتب فصول كتابه بطرح مسألة الحدود الجغرافية لمخيال الغربي للشرق عبر إجابته عن سؤال مطروح حتى قام مخيال الغرب برسم هذا الخط الوهمي شرق/غرب؟ وهذا بطبيعته شكل موضوع أول فصل في هذه الكتاب. أما الفصل الثاني فقد شكل موضوعه إجابات عن التساؤلات التالية: متى كان أول تعبير عن وعي بالذات أوروبي ؟ وهل كان الإسلام عنصراً كاشفاً للذات الأوروبية؟ ومن ثم ما معنى ومغزى الحرم الكاثوليكي المسلط على دين محمد؟ وبتعبير آخر إلى أي مدى كانت منطقة المتوسط في العصر الوسيط مكاناً للتضاد أم للتكامل؟ تلك هي الأسئلة المُتَضَمَّنَةُ في الفصل الثاني والتي تدل معانيها على أن الفوارق الأكثر مغزى قد لا تكون تلك التي يشيع الاعتقاد بها.
تقود هذه الملاحظات الكاتب إلى الاهتمام من ثم بدراسة المرحلة الفاصلة "مرحلة القرن السادس عشر الطويل" ، تلك المرحلة التي شكلت فيها منطقة المتوسط، في آن واحد، مكان مواجهات عسكرية هامة وهدفاً لمحاولة التفاف طبعت بداية الاكتشافات الكبرى.
وسيرى القارئ في الفصل الثالث بماذا أثرت هذه المرحلة الحاسمة على الرؤية الأوروبية للإمبراطورية العثمانية. هل إن هذا شكل آنذاك بداية صياغة مفهوم الشرق داخل ما يمكن تسميته سياسة للهوية وللغيرية؟ الإجابة عن ذلك هي أصعب مما قد يتبدى وفي المقابل، منذ أواسط القرن السابع عشر، وبصورة أوضح كذلك مع الأنوار، كما سيظهر في الفصل الرابع، يفرض الشرق نفسه بلا منازع ممثلاً لغيرية شمولية، في الوقت نفسه الذي تتم فيه بلورة بعض المفاهيم الجوهرية مثل لوصفه سياسياً. لكن الشرق، وكما يذكر الكاتب، في مخيال الأوروبي الجمعي، الذي لن تجتمع فيه جلّ الأضداد إلا بواسطة روحية القرن التاسع عشر، أصبح لنقيضته بامتياز للحداثة، بينما الفلسفة ضمت حضارات آسيا الغربية الكبرى القديمة إلى تاريخها العالمي من خلال رؤية عرقية للعالم ولصيرورته ما زالت إلى اليوم تسيطر على الفكر الغربي والأوربيون، وما زال القول للكاتب، هم ورثة هذه الرؤية السائدة التي باتت عرضة للتآكل عند أطرافها جراء أفول نجم أوروبا ونجم الغرب بصورة نسبية، هذه الرؤية التي باتت مربكة أيضاء جراء الندم الملطف الأقلوي المتبقي من مخلفات الحقبة الاستعمارية وذيولها. ينجم عن ذلك لدى المفكرين الأكثر انفتاحاً اليوم حركة قلقة باتجاه مصالحة الآخر ورغبة في التعويض.
تلك رغبة سعى الكاتب في الفصل السادس إلى تعيين حدودها ومطباتها: ما هو الاستخدام الذي يمكن للغرب تخصيصه للنظرة التي يلقيها على الآخر، وبأي شروط يمكن للغرب مباشرة حوار معه؟ من هنا يمكن القول بأن هذا الكتاب جدير بالاهتمام وبقراءته بتأنٍ.